معلمي

معلمي

 

بقلم: بروفيسور مأمون حميدة


لا يمكن أن يذكر البحث العلمي في السودان ولا يذكر إسم البروفيسور أحمد محمد الحسن الساكتابي ، ورغم أنه أستاذ علم الأمراض على مستوى المايكروسكوب إلا أنه خرج بافكاره وعقله الإبتكاري من حيز المعمل إلى المستشفى والمجتمع ليربط علم الامراض بالمريض إكلينيكياً حتى تحسبه أخصائي باطنية ولم يكتف بل خرج بتخصصه إلى رحاب المجتمع ومشاكله الصحية ولعل أبرز أبحاثه هي في القرى حول دوكة جنوب شرق القضارف فتميز بهذا الربط بين المعمل والمجتمع.
لايكفي أن نتحدث عن تخرجه من الجامعة والجوائز التي حصدها وعدد الاوراق العلمية التي نشرها لان هذا لا يعطي الفكرة الحقيقية لمقدرات هذا العالم والباحث وما أسهم فيه من ربط عجيب بين مختلف التخصصات مما يفتح مجال للناشئة من اختصاصي علم الامراض ليسيروا في طريق النجاج الذي أختطه هو بلا منازع ، فقد تربع على ماكينة الابحاث في السودان وأسهم بعدد كبير من الأبحاث العالمية ، الباحث المحب لعلمه ومهنته المملوء بثقته في نفسه يفتح المجال للصغار ليتعلموا منه ، بل ويسعده أن يجد حوله مجموعة من الطلاب والأطباء – هكذا كان البروفيسور أحمد – كنا في المرحلة الخامسة في كلية الطب (عام قبل التخرج) نفاجأ به في الداخلية مساءً يدعوننا للذهاب معه لمعمل كلية الطب حيث يقضي معظم وقته ، لأنه وجد ما يستحق أن يراه ويتعلمه الطلاب ، كنا نتبعه فرحين كفرحته بإصطحاب الطلاب .
وأذكر أني رأيت حالة سرطانية في الجلد Kaposi’s Sarcoma وهو سرطان نادر حينها وتحدث معنا عنها وأشار إلي أنها مرض أفريقي ، ويصاحب هبوط الحالة الصحية العامة للمريض وكأنه قرأ ما سياتي وبظهور مرض الأيدز HIV/AIDS كثر هذا السرطان ولم أرى حالة أخرى إلا عندما كنت أخصائي باطنية في مستشفى سوبا ، في مريضة مصابة بمرض الايدز بعد اكثر من عشرة أعوام من المشاهدة الأولى.
كان كبيراً وأتخذ من ناشئة الأطباء أصدقاء ليعلمهم فنون البحث العلمي وقد شهدت كيف تبنى بعضهم كعصام التوم (بورفيسور علم الأمراض في جامعة برمنجهام الاباما امريكا) وقد كان عصام شغوفاً لنيل العلم وصاحب البروفيسور كظله وشرب وأرتوى من علمه.
كانا يعملان ليل نهار حتى في يوم العيد وذكر لي عصام أن البروفيسور عندما يُجهد يراه نائماً وعيناه ملتصقات بعدسات المايكروسكوب
لم يكتف بتعليم واحد لواحد بل فتح مؤسسات البحث العلمي للجميع فكان رئيساً لمجلس الأبحاث الطبية في المجلس القومي للبحوث ، عميداً لكلية الطب ، ورئيساً لقسم الأمراض لأعوام ، وختم حياته بإنشاء أهم معهد بحثي في علوم الطب البشري معهد الأمراض المتوطنة بكلية الطب.
حزنت وشعرت بأننا الجيل الوسط قد قصر في حق طلاب القرن الحالي عندما عرضت صورة لبروفيسور أحمد محمد الحسن في إحدى محاضراتي عن الأمراض المتوطنة تروبيكال Tropical) ) ولم يتعرف عليه أحد.
إعتدتُ في محاضراتي لطلاب الطب والدراسات العليا أن أبدأ بتاريخ المرض منذ القدم ، وكيف ساهم علماء أجلاء أوربيين وعرب في إكتشاف ذلك المرض ، ثم أتحدث عن تاريخ المرض في السودان متطرقاً للعلماء السودانيين اللذين أسهموا بأبحاثهم في إثراء المعرفة لتلك الأمراض.
تأسس الطب في السودان إعتماداً على المؤسسين الأوائل اللذين أعتمدوا تدريب الأجيال وخلق كوادر مؤهلة عبر التعليم الطبي وفي كل تخصص نرى من برز كاستاذ لعلوم الطب قبل أن يكون طبيباً يداوي المرضى ، وما يميز هذا الجيل هو حرصهم على نقل المعرفة للناشئة والحديث عن هؤلاء يحفز أساتذة اليوم في الطب ، بأن يكون ذلك ديدنهم ، ومن عالج الف مريض فإنه بتدريبه 50 طبيباً يعالج خمسين ألف مريض.
وإن كان بروفيسور داؤود الأب المؤسس لعلم الباطنية في السودان فإن بروفيسور أحمد محمد الحسن الأب المؤسس بلا منازع لعلم الامراض ، وظل نسيجاً متفرداً يربط التخصصات الطبية بعضها ببعض.
فكان أخصائي باطنية وطب مجتمع فوق تخصصه في علم الأمراض وقد إلتفتت الكلية الملكية ببريطانيا في علم الأمراض لاحقاً لأهمية إلتحام هذين التخصصين – فأقرت زمالة Clinical haematology والتي تدمج تخصص الباطنية MRCP وتخصص علم الأمراض FRCpath .
تخرج بروفيسور أحمد بدبلوم مدرسة كتشنر الطبية عام 1955 وكان المتميز الاول ، إذ نال جائزة كتشنر وظل في تميزه حتى إختاره الله لجواره في العاشر من نوفمبر 2022 في منزله بالرياض الخرطوم .
برع بروف أحمد محمد الحسن في التشخيص في مجال تخصصه الدقيق وتحديداً نوع الخلايا ، حتى أصبح المرجع الأول لبقية أخصائي الأنسجة المريضة ، يعيش ويسعد بتحويل العينات له حتى من العيادات الخاصة ، يقدم رأيه بلا أجر .
أتى إليه مريض كان يعمل مهندساً أصيب بجروح وتورم في الجلد وتحت المجهر ظهر أن المرض سرطاني ، تأكد ذلك بعد مشورة البروفيسور ولكنه أضاف أن هذا النوع يأتي نتيجة البكتريا الحلزونية ، وتم فحص وجود تلك البكتريا وأختفى ما كان على الجلد بعد أن أكمل المريض علاج البكتريا ، هذا ليس علماً وذكاءً فحسب ولكنه نوع من القراءات التي لا تتاح إلا لقلة من الأطباء .
ولد برفيسور أحمد في بربر حي الدكة في العاشر من أبريل 1930 وليس غريبًاً أن يكون تاريخ الميلاد دقيقاً لان بربر هي العاصمة الحضارية للسودان في ذلك الزمان ومدارسها وخلاويها سبقت غيرها من مدن السودان ، يذكر بروفيسور احمد أنه يتذكر عندما كان طفلاً محمولاً في خِصر أمه ( هذه الذاكرة ظلت متقدة حية حتى نهاية ايامه بعد 92 عاما من مولده ) .
حكى بروفيسور أحمد الصافي الطبيب والمؤرخ أن البرفيسور احمد اقام مأدبة عشاء قبل ثلاثة أيام من وفاته وكان خير المضيف والمستقبل لزواره .
من الطرائف إنه عندما كان في عمر الثالثة وهو يجري وراء جدته سمع صوت تلاميذ الخلوة فدخلها من غير أن تعرف جدته وقضى يومه حتى نهايته والأسرة تبحث عنه فسمح له أن يواظب عليها لإصراره.
بعد أن نال دبلوم علم الأمراض من جامعة لندن ثم نال درجة الدكتوراة في علم الأمراض من أدنبره عام (1965) عاد إلى السودان ليكون أول سوداني رئيساً لقسم علم الأمراض بكلية الطب (1966 – 1969) .
ما لا يعلمه الكثيرون أن بروفيسور أحمد كان من المؤسسين للكلية الملكية لعلم الأمراض البريطانية وعضواً فيها ونال منها عدة جوائز ، وإسهاماته كثيرة في تطوير علم الامراض وفي إبتكار طرق تعليم متنوعة ، ومن أعظم ما أنجزه متحف علم الأمراض بكلية الطب الذي اختار موقعاً له تحت قبة معمل إستاك ، جمع عدد كبير من الأعضاء المريضة وحفظها في صندوق زجاجي عليه تاريخ المريض والملاحظات الإكلينيكية ونتائج الفحص المجهري. وقد تعلم طلاب الطب _ليس من طب الخرطوم_ فحسب بل من كل الجامعات حكومية وخاصة من هذا المتحف الفريد .
أذكر أن هنالك عينات نادرة مثل نقص فايتمين C Ascorbic acid – وعينة من العظم – للتكسح (Rickets) نتيجة نقص فاتمين D وغيرها من العينات النادرة ، للأسف لم ينال المتحف العناية الكافية بعده ، وتسللت كثير من هذه العينات إلى أماكن خاصة .
كان السودان رائداً في أبحاث طب المناطق الحارة والملاريا والكلازار والبلهارسيا وغيرها منذ 1904 عندما أنشأ هنري ويلكم معهد الأبحاث للأمراض المدارية (تروبيكال) Tropical وقد سبق قيام هذا المعهد إنشاء مدرسة لندن لطب المناطق الحارة والتي أسسها د. أندروبلفور تكريماً له على نجاح معهد ويلكم الذي أسسه في السودان ، والذي كان مؤسسه ومديره .
مقدرة الباحث تتجلى في مواكبة الجديد في تخصصه وعلم الأمراض من العلوم التي إزدهرت وتطورت ، وواكب بروفيسور أحمد كل هذه التطورات لأنه لم ينقطع عن متابعة الجديد ، أو الإستفادة منه في أبحاثه ، وكان يتعلم من تلاميذه ، ومنهم من تميز في العلوم الحديثة كعلم المناعة وعلاقته بالأمراض والإستفادة من مؤشرات خلل أو زيادة المناعة في التشخيص والعلاج ، وهنا لا بد أن نذكر أن البروفيسور بروحه التعليمية وحبه لنشر العلم كان يحب أن يعمل في مجموعات بحثية ، وفي مجموعته كان بروفيسور هاشم ورسمة غالب عالم في أمراض المناعة ومن الذين حذق العلم نظرياً ، وتمكن من إجراء الإختبارات والتجارب في المعمل ، وكان من سواعد البروفيسور الهامة . وكذلك بروفيسور عصام التوم وكان طبيباً حديث التخرج ولكن كان كحواره وكان يستأنس لرفقته ولقد تفرغ لملازمته ويعلم تماماً أن كل دقيقة يقضيها مع البروفيسور هي محاضرة في علم الأمراض والحياه …. يتبع

رابط الموضوع المنشور